إصدارات
حديثة
حياةُ أبي المآثر (جزآن)
(ترجمة
ضافية باللغة الأردية للمحدث الهندي النابغة الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي رحمه الله)
تأليف:
الدكتور مسعود أحمد الأعظمي
ملتزم
النشر والتوزيع: المجمع العلمي، مركز الدراسات والخدمات العلمية،
ص ب: 1-
مدينة مئو، الرمز البريدي: 275101، ولاية “أترابراديش” الهند
صَدَرَ
الكتاب باللغة الأردية منذ سنوات، وتَلَقَّتْه أيدي القراء بالاقتناء اللائق؛
لأنّه يتحدّث عن حياة وإنجازات أكبر مُحَدِّث نابغة في العصر الأخير في الديار
الهنديّة، ونال سمعةً عالميّةً مطبقةً بإنجازاته العلميّة، ودراساته الحديثية،
وتناوله للمخطوطات الحديثية التي يرجع تاريخها إلى مستهلِّ القرن الثالث أو إلى
القرن الثاني بالدراسة والتدوين، وبإصدارها مطبوعةً من مكتبات العالم العربي
المعروفة بإصدار كتب التراث الإسلاميّ.
لقد كان المُحَدِّث الكبير النابغة في علوم
الشريعة والعلوم الإسلاميّة العامّة فضيلةُ الشيخ حبيب الرحمن الأعظميّ رحمه الله
تعالى (1319-1412هـ = 1901-1992م)) المرجعَ الأكبرَ للعلماء والطلاب في عصره؛ حيث
كان فقيدَ المثال بين أقرانه من العلماء والمُحَدِّثين؛ لما كان يمتاز به من خصائص
الإتقان والتعمق والدقة في علوم الحديث وأسماء الرجال خصوصاً، وعلوم الكتاب والسنة
والعلوم الإسلاميّة عمومًا؛ فقد سَلَّمَ له علماءُ عصره في الهند وخارجها
الأستاذيّة في كلٍّ من علم التفسير وأصوله، وعلم الحديث وأصوله، ومتون الحديث
ورجاله، وعلم الفقه والإفتاء، والتأريخ والسيرة والتراجم، واللغة والأدب والعلوم
العربيّة، من النحو والصرف واللغة وعلم المعاني والبيان، وعلم العروض، حتى اعترفوا
بتعمّقه في كلٍّ من علوم الهيئة والفلسفة والكلام، وما إلى ذلك من العلوم التي
يزهد فيها في الأغلب المشتغلون بعلوم الحديث.
وإلى
ذلك كان رحمه الله يُتْقِن كلاًّ من اللغات العربيّة والفارسيّة والأرديّة لحدّ
أنه صَنَّفَه ذووالبصر بهذه اللغات وطبيعتها أديباً في كل منها، وكان يقول الشعرَ
في كلٍّ منها أيضاً. وكتاباتُه كلُّها في كلٍّ من هذه اللغات. تمتاز بالسهولة
والسلاسة والإيجاز والعذوبة، وتخلو كليًّا من الصعوبة والتعقيد اللفظيّ والمعنويّ
والإطناب والجفاف. والحقُّ أن علمه الغزير، واشتغاله بعلوم الكتاب والسنة،
وانقطاعه إلى الدراسة والبحث والكتابة والتدريس، كلّ ذلك عَرَّفَه فقط عالماً
متقناً متضلعاً، فاختفى جانبُه الأدبيّ، فلم يُعْرَف كاتباً أديباً متضلعًا من
اللغة والأدب، مُتَرَسِّلاً في كل من العربية والفارسيّة والأرديّة. والحاجةُ
ماسّةٌ إلى دراسة حياته كأديب كاتب مُتَرَسِّل مُتَعَمِّق في أساليب الكتابة
وطرائقه، وإبراز هذا الجانب أيضاً من شخصيته النابغة العبقريّة.
وقد أجمع العلماءُ والدارسون أنّه كان أعرفَ
علماء عصره بمخطوطات الحديث الموجودة في العالم، وقيمتها وغنائها، وأكثرهم توفيقاً
للعناية بها وتناولها بالدرسة المقارنة، والتصحيح والتدوين، والتجهيز للطبع
والإصدار. وقد تَرَكَّزت عنياتُه على البحث عن مخطوطات الحديث التي سبقت كتابتُها
وتدوينُها تدوينَ كتب الصحاح الستة؛ لأن المستشرقين كانوا يثيرون الشكوك في صحة
الحديث محتجين بأن الصحاح الستة وغيرها قد تَمَّ تسجيلُها في القرن الثالث الهجري،
وأن حفظ الحديث وضبطه شفويًّا طَوَالَ هذه المدة الزمانيّة الطويلة لايجوز
ولايُتَصَوّر، فاهتمّ الشيخ الأعظميّ من مخطوطات الحديث بما كان قد تمّ تدوينُه في
القرن الثاني أو أوائل القرن الثالث. مثلاً «كتاب الزهد والرقائق» للإمام عبد الله
بن المبارك المروزي المتوفى 181هـ/797م/842م و«المُصَنَّف» للإمام الحافظ أبي بكر
عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى 211هـ/827م، وهو كتابٌ ضخم أصدره في 11
مجلدًا كبيرًا، و«مسند الحميدي» للإمام الحافظ أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي
المتوفى 219هـ/834م، و«سنن سعيد بن المنصور» للإمام الحافظ سعيد بن المنصور بن
شعبة الخراساني المكي المتوفى 227هـ/848م، و«المُصَنَّف لابن أبي شيبة» للإمام عبد
الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي المتوفى 235هـ/849م.
كما
اهتمّ رحمه الله بدواوين الحديث الأخرى التي كانت مخطوطةً، وكانت لها اهميّة خاصّة
لدى علماء الحديث، مثل «المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية» للحافظ ابن حجر
العسقلاني المتوفى 852هـ/1449م، و «مختصر الترغيب والترهيب» للحافظ ابن حجر
العسقلاني، فقد عكف عليهما رحمه الله مراجعةً تصححيحاً وتعليقًا وتدقيقاً، وأصدرهما من بعض المكتباب العربيّة. كما عني بتحقيق
«فتح المغيث بشرح ألفية الحديث» للإمام شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي
المتوفى 902هـ/1497م) و«ثقات ابن شاهين» للإمام أبي حفص عمر بن أحمد بن عثمان ابن
شاهين (المتوفى 385هـ/995م) و«زوائد مسند البزار» للحافظ أبي الحسين علي بن أبي
بكر بن سليمان الهيثمي (المتوفى 807هـ/1405م) و «الحاوي لرجال الطحاوي» وهو من
تأليفه الهامّ وقد أشاد به العلامة محمد أنور شاه الكشميري (1292-1352هـ =
1875-1933م) شيخ الحديث الأسبق بدارالعلوم/ ديوبند .
ومن
مآثره العلمية الخالدة تصدّيه للردّ على الفرق الباطلة والطوائف المتطرفة ممن
يُسَمُّون أنفسهم «أهل القرآن» الذين ينكرون حجيّة الحديث، فينكرون طائفةً كبيرةً
من أحكام الدين التي لم ينصّ عليها القرآن الكريم؛ وممن يُعْرَفُون باللامذهبين
الذين يُشَنِّعون على الأئمة، ويَتَوَخَّوْن السهولة الزائدة في أحكام الدين،
فيكتفون بثماني ركعات في صلاة التراويح، وقد ألّف رحمه الله في الردّ على الطائفة
الأولى كتابه «نصرة الحديث» كما ألّف في الردّ على الثانية عددًا من الكتب
والرسائل، وأثبت أن عشرين ركعةً في صلاة التراويح ظلت مُجْمَعًا عليها منذ عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر الصديق وعهد عمر بن الخطاب رضي الله
عنهما.
كما
ألّف رحمه الله في الردّ على المبتدعين والبريلويين وحَضَرَ عددًا من المناظرات
معهم التي عقدها مُحِبُّوه والمُعْجَبُون به في شتى الأمكنة.
ومن
إنجازاته العلميّة البارزة تصدّيه لإبراز الأخطاء التي ظلّ يرتكبها الشيخ
الألألباني رحمه الله (الشيخ ناصرالدين الألباني 1333-1420هـ = 1914-1999م) في
كتاباته وتحقيقاته الحديثية، فأَلَّفَ كتابه الشهير «الألباني شذوذه وأخطاؤه» الذي
أصدرته عام 1404هـ/1983م مكتبة دارالعروبة للنشر والتوزيع، بدولة الكويت. وهي
أخطاء غير هَيِّنَة صَدَرَت من الشيخ الألباني الذي بهر كثيرًا من العلماء العرب
ببحوثه العلميّة، ولاسيّما شكوكه التي أثارها ضدّ السلف والأئمة المتبوعين. رحمه
الله وغفر زلاّته.
وقد
كان رحمه الله مثالاً حيًّا شاخصاً للنبوغ والعبقرية في مكان منعزل لحدّ ما عن
المدن الكبيرة والأمكنة الثقافية التي تُعْتَبَرُ عواصمَ العلم والثقافة؛ حيث
تَخَرَّجَ في مسقط رأسه مدينة «مئو» إحدى المدن الصغيرة في المنطقة الشرقية من
ولاية «يوبي» بالهند، التي لم تكن بالنسبة للعلم والثقافة مثل «دهلي» أو «ديوبند»
وتَخَرَّجَ في إحدى مدارس هذه المدينة الصغيرة المسماة بـ«دارالعلوم» حيث لم يتمكن
لأسباب عديدة من التخرج في الجامعة الإسلامية الأهلية المعروفة في الهند وفي
العالم وهي «دارالعلوم/ ديوبند» التي تعتبر أكبر مركز للتعليم الديني والعلوم
الشرعيّة في القارة الهندية وتُعْرَف بـ«أزهر الهند» رغم أنّه تَوَخَّى التشرفَ
بالتخرجَ فيها، فالتحق بها مرتين؛ ولكنه عاد في المرة الأولى من شدة ما أصابه من
المرض بعد ما مكث بها نحو ثلاثة شهور، كما مكث بها في المرة الثانية نحو أربعة
شهور، وعاد لما أصابه من المرض أيضاً. وكأَنّ الله عزّ وجلّ لم يقدر له التخرجَ
الرسميَّ في هذه الجامعة الإسلاميّة الأهليّة الكبرى، وإنما تَخَرَّجَ في مدرسة من
المدارس التي تَتَّبِعها في المنهج الدراسيّ والمذهب الفقهيّ والمسلك الفكريّ؛
ولكنه نبغ في العلوم الشرعية وغيرها من العلوم التي تُدَرِّسها دارالعلوم/ ديوبند نبوغاً
جَعَلَه يقف في صفّ مشايخها الممتازين ويفوق جميع أساتذتها العاديين.
وقد
أعانه على النبوغ ذاكرتُه القويّة اللاقطة لكل شيء يتعلّق بالعلم والمعرفة بشكل
كانت لاتخونه أيَّ خيانة لدى الدراسة والتدريس والكتابة والتأليف. وقوةُ الذاكرة
شرطٌ أساسيٌّ للنبوغ في الحديث وعلومه؛ لأن ضعاف الذاكرة لايمكنهم أن يضبطوا متون
الحديث وأسانيده وتراجم رجاله ومعانيه المتوارثة والروايات المختلفة لحديث من
الأحاديث، وما فيها من الصحة والضعف، والقوة الحاصلة عن تواتر الرواية وتعدد
الطرق.
كما
كان يتمتع بالذكاء والفطنة وسرعة الإدراك والفهم وإصابة الرأي وسداد الفكر، إلى
جانب الحلم المثاليّ، والبساطة في شؤون الحياة كلِّها، كما كان أحرصَ العلماء على
خزن اللسان إلاّ فيما يعنيه، إذا تكلَّمَ تَكَلَّمَ عن سداد رأي وصواب فكر، وكان
يزن زنة دقيقةً كلَّ كلمة كان يلفظها أو كان يكتبها، فكان كلٌّ من منطوقه من
الكلام ومكتوبه من الحديث قليلَ المباني كثيرَ المعاني، سهلَ الإساغة والتلقي
نبيلَ المظهر جميلَ الوقع.
كان
رائيه لايتأكّد في أول وهلة أنه أمام عالم بهذا المستوى العالمي بالنسبة للعلم
وبالنسبة للصيت المطلق، لأنه كان بسيطاً كلَّ البساطة في مظهره، وفي ملابسه، وفي
تعامله مع الكلّ. وقد اشتهر عن النوابغ أنهم لا يُقَدَّرُون حقَّ القدر في أوطانهم
ومساقط رؤوسهم، وإنما يوزنون بالذهب في خارجها؛ ولكني رأيتُ في حياتي هذا العالم
النابغةَ الفريدَ وحدَه، كان أبناءُ وطنه يفدونه ويحترمونه الاحترامَ البالغَ
العجيبَ، ويُقَدِّمُون له خدمات مجّانيّةً تطوُّعيّةً من كل نوع عن رضا القلب
والإخلاص البالغ، ولعلّه كان مستثنى وحيدًا مما اصطلع عليه الناس أن «ديكة البلد
تعدل العدسَ».
وكان أزهد العلماء في الجاه والمنصب والمال
والشهرة، فقد دعته الحكومات العربية، والجامعات العالمية الشهيرة الكبيرة لأداء
الخدمة العلمية لديها مقابل مكافآت ماليّة مغرية وتسهيلات مُوَفَّرَة مثيرة؛ ولكنه
آثر الاشتغالَ بما يحبّه من الدراسة والتأليف والتعليق والتدوين قانعاً بالكفاف في
وطنه وفي بيته، حتى إنه طوى كشحَه عن التدريس الذي ظلّ يقوم به في عدد من المدارس
لمدة من الزمن، ليتفرغ لإشباع هوايته في البحث والدراسة والتحقيق ولاسيما
للمخطوطات الحديثية الهامّة التي ظلت خافية عن أنظار العلماء والمحدثين طَوَالَ
هذه القرون الطويلة من التاريخ الإسلامي.
إن كثيرًا ممن يُعْرَفُون بـ«العلماء
والباحثين» الذين لم يبلغوا عُشْرَ مِعْشَاره في العلم فضلاً عن روح الإتقان
والتدقيق والضبط التي كان يتمتع بها، حرصوا حرصًا لا نهايةَ له على أن يطبق صيتُهم
العالَمَ، وأن يَدِين لهم المالُ والجاهُ والثروةُ ووسائلُ الراحة والعيشِ الرغيد،
وأن تخضع لهم رقابُ المُثَقَّفِين والأثرياء والأمراء، وأن تُطَبِّل لهم وسائل
الإعلام والدعاية، وتتحدث عنهم في الدنيا كلّها بكل لغاتها، وأن يُسَجِّل عنهم
الكُتَّاب والمؤرخون أنهم أكبر الكبراء، وأعلم العلماء الغابرين والحاضرين؛ ولكنه
لم يحرص، بل لم تُحَدِّث نفسه بشيء من ذلك؛ ولكن الله أشهره في العالم بحكمته،
فكان قد عرفه العربُ والعجمُ، وأَجْمَعَ على عظمته القاصي والداني، واستفاد من
علمه العلماءُ والطلابُ، وأشاد بفضله كلٌُّ من عرفه عن كَثَب أو عن كُتُب.
* * *
ولقد
أحسن أخونا الفاضل الباحث الواعد سبط الفقيد –
رحمه الله –
الأستاذ الدكتور مسعود أحمد الأعظمي وفقه الله لمزيد من مثل هذا الخير الكبير، إذ
عَكَفَ على دراسة حياته الشخصيّة والعلميّة، فأَلَّفَ في جزئين ضخمين باللغة
الأرديّة ترجمةً ضافيةً له رحمه الله، الجزءُ الأوّلُ يتحدث عن حياته العامة،
والجزءُ الثاني يتحدث عن حياته العلميّة، وإنجازاته التأليفية والتحقيقية، والأولُ
يقع في 732 صفحة بالقطع الكبير، والثاني في 758 صفحة. واستوعبا الجزآن كلَّ شيء
يرغب فيه الدارس لحياته رحمه الله من المعلومات الدَّسِمَة والموادّ الوافية
الغزيرة. وقد تمّ ذلك تحت إشراف نجل الفقيد الكبير فضيلة الشيخ رشيد أحمد الأعظمي
حفظه الله وأطال عمره مع الصحة والعافية والتوفيق لكل ما يحبه ويرضاه. وهو عالم
صالح يتكلم مثلَ والده العظيم قليلاً، ويعمل كثيرًا، ولديه قدرة عجيبة لتوظيف
المُؤَهَّلِين للأعمال العلميّة، ويحرص حرصاً مثمرًا على ضبط وتدوين ونشر إنجازات
والده العلميّة، وخطا إلى هذا الجانب في صمت خطوات بناءة فجزاه الله خيراً.
ويتصدر
الجزءَ الأولَ تقريظاتٌ وتقديماتٌ بأقلام كبار العلماء والمشايخ والكُتّاب بمن
فيهم نجل الشيخ رحمه الله الأكبر فضيلة الشيخ رشيد أحمد الأعظمي/ حفظه الله. ثم
يَتَوزَّع بين 11 باباً، والبابُ الأوَّلُ تحدث فيه المؤلف عن وطنه رحمه الله
وبيته ونسبه. والبابُ الثاني تحدث فيه عن ولادته وتعليمه وجميع التفاصيل التي
تتعلق بذلك من المدارس التي تعلم فيها، والامتحانات التي أدّاها، والمحطّات التي
نزل بها في هذا الصدد، والشهادات التي حصل عليها، والعلماء الذين احتكّ بهم. والبابُ
الثالثُ خَصَّصَه المؤلف للحديث عن الأساتذة الذين تَعَلَّمَ منهم. والبابُ
الرابعُ تحدث فيه عن نشاطاته التدريسية والتأليفية وغيرها من الأمور التي اعترضت
حياتَه في هذه المرحلة من حياته، وعن المدارس التي درّس فيها، والرحلات العلميّة
التي قام بها، والكتب التي درّسها، والمُؤَلَّفَات التي أَنْجَزَها، وهو باب ثرٌّ
يتضمن معلومات كثيرة عن التأليفات التي أَلَّفَها رحمه الله. والبابُ الخامسُ تحدث
فيه عن حياة تلامذته الكبار، والبابُ السادسُ تحدث فيه عن حياته العائليّة:
زوجاته، وأولاده. والباب السابع تحدث فيه عن حليته وملابسه، وطريقة حياته، وأخلاقه
وعاداته، وما كان يمتاز به من السيرة الحسنة، والسلوك الجميل النبيل، والخصائص
التي جعلته شامًّا بين العلماء من قوة الذاكرة والذكاء، ودقة النظر، وقوة
الاستدلال، والحرص على الدراسة، والمحافظة على الأوقات، والوفاء بالوعد، وملازمة السكوت
إلاّ للحاجة، والعزيمة والطموح، وقدرة تخريج الرجال، وثقوب النظر والتسامح، وما
إلى ذلك. والبابُ الثامنُ تحدث فيه عن التزكية والإحسان وموقعه منهما، وتخرجه
فيهما، واتصاله بالعالم المربي المصلح الكبير العلامة أشرف علي التهانوي رحمه الله
تعالى (1280-1362هـ = 1862-1943م) وملازمته له لهذا الغرض السامي. والبابُ التاسع
تحدث فيه عما رآه في المنام من الأحلام المُبَشِّرة والرؤيا الصالحة، وما ظهر له
مما يظهر لعباد الله الصالحين من الكرامات. والبابُ العاشر يحدث فيه عن آراء
العلماء الكبار فيه في داخل الهند وخارجها. والباب الحادي عشر تحدث فيه عن شعره،
ولاسيما ما قاله في المديح النبوي ورثاء كبار العلماء، إلى جانب ما تَفَتَّقَتْ له
طبيعتُه الشعريّة من أنواع الغزل. وذلك في كل من اللغات العربية والفارسيّة
والأردية.
وقد وَقَّعَ رحمه الله إثر وفاة العلماء
والأعلام الكبار في داخل الهند وخارجها بما اختلج به صورُه من الأحزان والانطباعات
الأليمة، بعبارات جزلة ثَرَّة المعاني قليلة المباني تمتاز بأسلوب أدبيّ رفيع
المستوى وتدعو القارئ للتأمل والاعتبار. وهذا النوعُ من النثر الذي أَرْسَلَه على
طبيعته في كلٍّ من العربية والفارسيّة والأرديّة، تَجَلَّىٰ فيه منهجُه
الكتابيّ الطبيعيّ الخاصّ الذي يختلف لحدّ ما عن كتاباته الأخرى التي تَعَامَلَ
بها في جميع تأليفاته وتحقيقاته وتعليقاته، حيث تحلّى بشيء كثير من العذوبة
المعجونة بالوجد والتألم والأسف على فراق العظماء النافعين للأمة الخالدين بمآثرهم
وأعمالهم الجليلة، مما جَعَلَ نثره من هذا النوع أعذبَ أنواع نثره؛ لأنه جاء قطعةً
من قلبه، وفلذةً من كبده، صادرًا عن
مهجته. وما يصدر عن القلب ينفذ لا مَحَالَة في القلب.
وقد أودع المؤلف هذا النوعَ من نثره رحمه
الله هذا البابَ الحادي عشر ضمن عنوان: «وفيات الأعيان».
وتحت
عنوان «آثار قلم» أثبت المؤلف قائمةً بجميع ما كتبه الفقيد الكبير من المقالات
والكتب والرسائل والتحقيقات والتعليقات، مما يُسَهِّل على الدارس لحياته رحمه الله
مهمةَ الدراسة والبحث والكتابة والتأليف.
كما
أثبت في خاتمة هذا الجزء الأول القصائدَ الرثائية التي قالها العلماء والشعراء
فيما بعد وفاته رحمه الله.
أما
الجزءُ الثاني من الكتاب فهو مُخَصَّصٌ للحديث عن إنجازات الفقيد العلميّة. وفد
عَرَّف المؤلف فيه بجميع ما كتب وألّف وحقّق وعلّق وراجع من الكتب والرسائل. كما
لخّص مضامين مُؤَلَّفاته الهامّة مع الإشارة إلى قيمته العلميّة وأهميته
التأليفية. مما يؤكد ما بذله المؤلف من جهده ووقته وطموحه في دراسة الموادّ
المعنية وغَرْبَلَتِها واستخراج ما يريد استخراجه منها من المعلومات الثمينة التي
ألّفها كتاباً بهذا المستوى العلميّ الذي لايسع أيَّ قارئ مُتَذَوِّق للعلم
والمعرفة أن لا يشيد به ويثني عليه.
وقد أَعْمَلَ المؤلف في الجزئين أسلوباً
علميًّا تاريخيًّا يخلو من الإطناب والترادف والحشو الذي يتعامل به الكاتب في أيّ
من الأساليب الإنشائية والدعوية والأدبية والفكريّة التي قد تُحْوِجُه فيها
الحاجةُ إلى الإكثار من الألفاظ المترادفة أو الجمل المتماثلة أو التعبيرات
المتجانسة، تركيزًا على نقطة، أو لفتا إلى معنى، أو استقطاباً إلى فكرة، مما قد
يُحدث المبالغة، أو يؤدي إلى الغلو في الاستنتاج، أو تلقى الانطباع واستقاء
التأثر. أما الأسلوب العلمي التاريخي المُرَكَّز الذي يعبر عن كلّ حقيقة تعبيرًا
مباشرًا عادلاً دقيقًا دونما نقص أو زيادة، فهو يعين القارئ على التوصل إلى معلومة
صحيحة عن طريق صحيح، كما يُسَهِّل عليه تلقّيها وضبَطها على ما هي عليه.
فالمؤلف
يستحق الشكر والتقدير من كل قارئ منصف ينشد المعلومات الصحيحة في كتاب أُلِّف في
الترجمة لشخصية من الشخصيات العظيمة في العلم والفكر والدين مثل العلامة الأعظمي
رحمه الله؛ لأنّه لم يُسَبِّب تغيّر المعلومات عن مسارها الصحيح بأسلوب أدبي قصصي
زاهٍ مثير للغاية. فأسلوبُه أسلوبُ المؤرخ وأسلوبُ كُتَّاب السير والتراجم الكبار
الذي يمتاز بالدقة والمتانة والإيجاز والسهولة، ويتسامى عن الأسلوب العاديّ
العاميّ الذي يخلو عن كل لذة لغوية، ورواء لساني، وإحكام صياغي، وجاذبية بيانية،
فيكرهه القارئ وينبو عنه المستمع.
والكتابُ
بجزئيه يستحقّ أن يُنْقل إلى العربية وغيرها من اللغات الحية العالميّة. ولا ندري
ما إذا كان قد تمّ نقله إلى العربيّة؛ لأن تحقيق العلامة الأعظمي للكتب الحديثية
وعمله الكبير بشأن البحوث العلمية معظمه بالعربية. والعلماءُ العرب حريصون على أن
يعرفوا عنه ما يشبعهم ويغنيهم. والله الموفق لكل خير.
تحريرًا
في الساعة 10 من صباح يوم الأربعاء: 11/جمادى الأولى 1433هـ = 4/أبريل 2012م.
* *
*
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1433 هـ = يونيو 2012م ، العدد :
7 ، السنة : 36